مقال نبيل درغوث – جريدة المغرب حول كتاب الملانخولي لفتحي ليسير

/

نبيل درغوث
ّ بعد أن عرفنا فتحي ليسري مؤرخا متميّزا وأستاذا
ّ بالجامعة التونسية متخصصا يف التاريخ املعارص
ّ والراهن. ها هو يطل عىل املشهد الثقايف التونيس
برواية »املالنخويل« وهذا ليس بالغريب حيث هناك
وشائج قرابة بني كتابة التاريخ وكتابة الرواية إذ
ّ يف الكتابة سواء
كالهما يعتمد الرسد كأساس مفصيل
ّ بالنسبة للروائي يف كتابته لقصة متخيّ ّ لة أو املؤرخ يف
تركيبه لحقبة تاريخية ما معتمدا الحقيقة. وليس
فتحي ليسري الوحيد الذي جمع بني كتابة الرواية
ّ والتاريخ فقد سبقه يف هذا مثال املفك ّ ر واملؤرخ عبد
الله العروي )رواياته: الغربة-اليتيم-الفريق(.
تدور حكاية رواية »املالنخويل« حول »فريد
عبد الخالق« وهو شخصية محورية هيمنت عىل
ّ موضوع الرواية ومألت مجالها النيص. فالشخصية
ّ هي »كل مشارك يف أحداث الحكاية٬ سلبا أو إيجابا٬
أما من ال يشارك يف الحدث فال ينتمي
إىل الشخصيات٬ بل يكون جزءا من
الوصف. الشخصية عنرص مصنوع٬
مخرتع٬ ّ ككل عنارص الحكاية٬ فهي
ّ تتكون من مجموع الكالم الذي يصفها٬
ّ ويصور أفعالها٬ وينقل أفكارها
وأقولها«)2.)
»فريد عبد الخالق« هو شخصية
تعيش اضطرابا تراجيديا. منهزمة أمام
رشاسة الواقع. تحيلني عىل نظرية
جورج لوكاش حول البطل اإلشكايل
»الذي يرتدد بني الذات والواقع من أجل
تثبيت القيم األصيلة التي يؤمن بها«)3 .)و»فريد«
يشرتك يف هذا بنسب متفاوتة مع »عمر الحمزاوي« يف
ّ رواية »الشحاذ« لنجيب محفوظ و«كريم النارصي« يف
رواية »الوشم« لعبد الرحمن مجيد الربيعي و»منصور
عبد السالم« يف رواية »األشجار واغتيال مرزوق« لعبد
الرحمن منيف.
من هو »فريد عبد الخالق«؟
»فريد عبد الخالق« أستاذ جامعي ناجح محبوب
من الطلبة٬ يف الرابعة واألربعني من عمره٬ وسيم٬
ُِق َب بالجنتلمان٬ ّ زير نساء مرغوب منهن٬ له
أنيق٬ ل
صوالت وجوالت غرامية.
ّ »جمال وكمال )…( بل قل بهاء يوسفي٬ كأن
الرجل كان يزداد تألقا وجاذبيّ ّ ة مع مطلع كل شمس.
ّ كأن الخالق استقطر كل ّ الرجال يف رجل واحد٬ كأنه
ّ جمع ما تفرق من سمات املالحة ومالمح الرجولة
ّكاء يف شخص واحد.
وأمارات النباهة والذ
واملنتهى رسق الجمال كامال. شاب صبّت العافية
فيهما كاملة يف خالياه ورشايينه. هندسة بديعة.
ّق الخالق يف تصويره. قامة باسقة.
ّ وجه متوهج تأن
ّ جسد منحوت متناسق )كان يتعهده برياضة كمال
األجسام(٬ ّ مرصوص بنضارة الشباب. قسمات تشع
بغموض ساحر..« )ص27.)
»فريد« متميّز يف عمله متألق يف
عالقاته٬ ّ ذو ثقافة واسعة. يحذق عدة
لغات. يأرس سامعيه بفصاحته يف
الحديث. يعيش يف بحبوحة٬ لباسه آخر
صيحات املوضة. يأكل فاخر الطعام ويرشب الخمور
الجيّدة. ويملك شقتني.
لكن هذه الشخصية االرستقراطية ستتدحرج نحو
الهاوية أو أقول سيتدرج للنزول إىل الجحيم.
النزول إلى الجحيم
كان »فريد عبد الخالق« يف بعثة تدريس بفرنسا
قبيل الثورة التونسية )17 ديسمرب 14-2010 جانفي
2011 .)وتابع هناك أخبار الثورة بشغف وفرحة
واعتزاز كبري. ثم عاد إىل تونس. لتكون الصدمة
ّ الكربى واالختالل الكبري لحياته. سقوط حر مفاجئ.
»]فريد عبد الخالق[ رجل اصطلحت عليه بعد
ّورة مبارشة٬ مشاكل باغته
عودته من فرنسا٬ اثر الث
ّ بها القدر من حيث لم يكن يتوقع. فعال٬ لقد قلب القدر
ّ به الزورق فجأة فعاش محنا وشدائد رأى خاللها
ّم رؤية العني. وكادت تلك املشاكل تودي بعقله٬
جهن
وأوشكت أن تدفع به إىل وهدة االنتحار. باختصار
ّصك ّ ته صكا. فانقلب٬ يف وقت وجيز٬ ّ رش منقلب
ّاس غري
ّ واستحال عايل كل يشء أسفله عنده٬ فإذا الن
ّاس٬ واألشياء غري األشياء٬ والحياة غري الحياة«
الن
)صص 8-7.)
تغريت أحوال »فريد« 360 درجة. ماذا حصل
للجنتلمان؟
أصبح ظال باهتا٬ شاحب الوجه٬ هزيل الجسم٬ خبا
ّ شعاع عينيه. أكله الحزن والغم. دائم الرشود. تغّي
مظهره٬ ّ لباسه رث متسخ٬ ال يستحم. يقيض نهاره
وليله يف الحانات الشعبيّة القذرة منادما املشبوهني.
ّ »غيش الذهول كمال وهو يصعد النظر يف الجالس
ّ )تأكد له بعد طول إنعام نظر أنه فريد فعال( انعقد
لسانه ارتباكا. يا االهي! هذه خرقة آدمية! موش
ّ معقول! كل يشء انطفأ فيه. هذا مخلوق آخر لم يعد
فيه من فريد الغابر إال ظالل رقيقة ضئيلة. أفظع
ّ بها من كارثة. رد ّ د كمال يف رسه. أخذ نفسا عميقا
ّع إىل الرجل يف جهد وصعوبة. راعه ذبوله
ثم عاد يتطل
ونحافته. بدا كالشبح بشعره امللبّد ولحيته الشعثاء
ّ وهندامه املشو ّ ش وعينيه املتور ّ مني. كأن التعاسة
ّ أطبقت عليه من كل جانب« )صص 231-230.)
»فريد عبد الخالق« الشخصية
المنكسرة المهزومة
بعد عودة »فريد« من فرنسا إثر الثورة إىل تونس.
وجد نفسه أمام مفارقات عديدة. لم يستوعب
التغريات التي حصلت يف تونس بعد الثورة. ابتداء من
احتالل أحد شقتيه من طرف عائلة مرشدة مرورا
بسلوك املجتمع وصوال إىل ما فعلته حكومة الرتويكا
بتونس.
ّ انقلبت كل أحوال »فريد«. سقطت حياته يف
ّه كائن ممسوخ غريب عن
الالجدوى والالمعنى. كأن
ذاته. لم يواجه الواقع. سقط يف االستسالم والتخاذل.
ّ وان فضل تجاوز أزمته هذه بالهروب واإلغراق يف
العبث. جاعال نفسه يف اغرتاب وانفصال.
ّكل هذا ثبّت انكساره وفشله يف تحقيق قيمه
األصيلة يف هذا الواقع املنهار. وهكذا يتضح لنا أن
البطل اإلشكايل هو »بطل مرتدد بني عاملي الذات
والواقع٬ يحمل قيما أصيلة٬ لكنه يفشل يف تحقيقها
يف عالم منحط«)4.)
ّ إن رواية »املالنخويل« وضعت القارئ أمام مشكلة
»فريد عبد الخالق« ّ دون الظفر بحل لها. فالرواية كما
ّ ملشكلة بل
يقول آالن روب غرييه: »الرواية ليست حال
هي نتيجة الشعور بوجود مشكلة وبعدم القدرة عىل
ّها«.

fr_FRFrench
%d blogueurs aiment cette page :