• السيد العميد في قلعته

    “قلعة الأحرار”: لم تكن كالقلاع شاهقة البناء فقد شيدت في تقشف شديد لا يدل على ذوق معماري رفيع فجاءت عبارة عن بناءات مستطيلة متوازية من غير أي تزويق أو بهرجة وزخرف. كانت قلعة منعزلة في الخلاء كالقلاع المعروفة، بيد أنها لا تشرف على شيء ولا تحتاط من هجوم محتمل، ولا تواجه أعداء، ولا تخوض معارك ضد غزاة حقيقيين يطمعون فيها.
    وعلى الرغم من هذا كله، فإنها قلعة فعلًا. فالقلاع لا تكون قلاعًا إلا بأسرارها وناسها، وخصوصًا بعجز من هم خارجها من معرفة مسالكها ودهاليزها وخفاياها أكثر مما هي بهندستها وشكلها وحجارتها وصلابتها ومناعتها وشموخها.

    إنها مثال ناطق عن لعبة توهم وإيهام يصدقها الجميع داخل القلعة وخارجها، فيقتاتون من كذبة فاتنة شيقة وهم يلوكون سرًا غامضًا محيرًا. لذلك سأروي لكم شيئًا من هذا السر وبعضًا من حياة ساكني القلعة وتردداتهم وحيرتهم، وبطولاتهم ونذالتهم، وإخلاصهم وخيانتهم، وحروبهم وهزائهم، وإخفاقاتهم وانتصاراتهم.
    إن الدهليز المخيف لا يظل مرعبًا إذا نزلنا إليه واعتدنا ظلمته الحالكة، والشعاب المخوفة لا تظل خطيرة إذا دخلناها وخرجنا منها سالمين.

    د.ت45.00
  • السيرة العطرة للزعيم

    كان الوحيد الذي يستحق زعامة هذا الشعب. لكن رياح التاريخ في بلادنا تهب دائمًا عكس مصلحتها.
    كان الوحيد الذي فهم روح هذا الشعب العظيم. شعب استمرأ الخضوع لكل مستبد يمسك بخناقه كالدجاجة، شعب إذا شعر بالاختناق أكثر مما يجب ينتفض في النزع شبه الأخير ( يسمي المؤرخون ذلك ثورات ) ثم يسلم أمره لأول طامح إلى السلطة، شعب إذا أتيحت له المشاركة في انتخاب رئيسه يصوّت في اللحظة الحاسمة لمستبد جديد.
    كان الوحيد الذي فهم روح هذه الشعب العظيم إذ هو منحدر من أعماقه، لم يأت من بلدية العاصمة ذوي الدماء الزرقاء ولا من السواحل التي سكنتها روح التجارة وروائح رأس المال العفن.
    من روح هذا الشعب تشرّب قيمه وأسلوبه في العيش والتعامل وحتى في البذاءة المحببة إلى النفس. وجعل الله له نخبة من إخوان الصفاء يشدّون أزره.
    لقد كان مهدينا المنتظر لكنه قصف في المهد.
    وهذه الورقات من مناقبه وسيرته العطرة الفيحاء الزكية تستعيد نتفا من زعامته الخالدة.

    د.ت17.50
  • الطلياني

    رغم كلّ شيء ثمّة أمْرٌ ما يربطهما أكثر من الزواج الذي ساقته الظّروف والصّدفة. حين تشرع شفتا الطلياني تمتصّان رضاب تلك القصبة المفكّرة وتجوس يداه في ملمسها اللّيّن، تصبح غصنًا أخضر غضًّا يتلوّى كلّما مسّتْه ريحُ الرّغبةِ. هذه النّبتة الشّيطانيّة مذهلةٌ قُلَّبٌ لا تستقرّ على هيئة واحدة. يراها غصنًا جافًّا أو جذعًا يابسًا أحيانًا. وتكون أحيانًا أخرى عُودًا منوّرًا طيّبَ الرّيح يجدّد الحواسّ التي تبلّدت.
    ربّما كان ذلك بعض ما جعل طريقيهما يفترقان في أكثر الأيّام، ولكنّهما يلتقيان في لحظة لا يعرفان سرّها.
    واعترفت زينة بأنّ الطلياني يمكن أن تراه في لحظات غضبه كجحيم “دانتي” أو سقوط “أورفيوس”،
    ولكنّها تراه في لحظات شهوته عاشقًا هنديًّا مستعدًّا للموت عشقًا. لقد كان شهوة موقوتة لا تعرف متى تنفجر ولا تترك في الجسد مكانًا لا تصله الحروق اللّذيذة أو الشّظايا القاتلة..

    لم تصارح زينة عبد النّاصر برأيها هذا فيه. وهو كذلك لم يفعل. بيد أنّ في المسألة شيئًا دقيقًا عميقًا لم تتمكّن من فهمه. فقد كانت تأخذها في البداية سكرة ممزوجة برعدة كأنّها في حالة شطح للذّوبان في جسد عبد النّاصر والانصهار الكلّي فيه. جسده حقل مغناطيس بهيّ ينوّم الحواس ويستنفرها في الآن نفسه. يذهب بالعقل فتتخدّر الأعضاء كلّها. يجعلها تشعر في آن واحد بألم لا يُطاق ولذّة لا توصف. فتستسلم وترضخ. بيد أنّها حالَمَا تثوب إلى رشدها لا يبقى إلاّ ألَمٌ حادٌّ مروّع في أحشائها أسفل البطن، كأنّ إبَرًا غليظةً تنخرها من الدّاخل وتحرّكها يد خفيّة تظلّ تحفر وتحفر ولا تتوقّف.

    د.ت22.50
  • باغندا

    بدأت الحكاية على نحو مفاجئ، وانتهت بسرعة دون أن أتمكّن من كشف خفاياها. كان إحساسي بالقهر وتعطّشي لمعرفة الحقيقة قد دفعاني طيلة سنة تقريبا، إضافة إلى عنادي وبحثي عن سبق صحفيّ وأوهامي عن صحافة الاستقصاء، إلى الاشتغال على ملفّ الجوهرة السوداء في تاج كرة القدم التونسيّة «باغندا».
    فتحتُ صناديق كنت أجمع فيها أوراقي ومقالاتي ورسائلي فخرج باغندا من تلافيف الذاكرة كالنبتة الشيطانيّة.
    وها أنا أسعى إلى ترميم ذاكرتي وإعادة تركيب شتات من حكاية باغندا ولملمة نثار من قضيّة حُكم فيها بإسدال ستار من الصمت عليها وعلى ضحيّتها. فوقتها، أواخر سنة 1987، كانت البلاد تعيش حربا ضَروسا بين سلطة بورقيبة المتهاوية وبين الإسلاميّين الذين توهّموا أنّ السلطة تناديهم وما عليهم إلاّ أن يقبضوا عليها.
    واليوم لم يعد أحد يذكر الحكاية أو ربّما لا أحد يريد أن يذكرها.

    د.ت18.00
  • مرآة الخاسر

    التفت عبد الناصر. لمح في المرآة المقابلة زليخة من قفاها. انتفض من الكرسيّ قائلًا في دهشة:
    – “أية صدفة، الشعر المجعد الذهبي، الغمازتان الرائعتان، الشفة المكتنزة، الحاجبان المقوّسان.. لا أكاد أصدق.. عفوًا.. لا أقصد شيئًا”

    رأت في عينيه التماعة غريبة. أحست بارتعاش في المكان نفسه.. رعشة جعلت زغب جسمها ينتفق. أحست بتخدير.. حالة من الانتشاء منذ أن أخذ في وصفها. أحست نفسها مدفوعة إليه دفعًا. نسيت الطب وأخلاقيته والأسنان والعيادة. استحالت جسدًا متقدّا. شعرت بالحرارة ترتفع في جسمها. ذهبت بسرعة إلى غرفتها ونزعت القميص بقيت في الميدعة البيضاء تحتها الحصّارة. زرّت الميدعة بسرعة وعادت إلى قاعة الفحص. أغمض عينيه ليسرح بخياله في وجهها وفي الصورة التي استحضرها مقارنًا موازنًا مقربا مبعّدًا. كل شيء متطابق. مذهل.

    د.ت17.50