يحكي "فاسيا"، بطل الرواية" عن أحلامه وانفعالاته وحبه الرقيق الحنون، لكن هذا الشاب الذي يعيش حياة انعزالية ويغرق مشاعره القوية وأحلامه الرومانسية، ويحلم بالانتقال من دور الشاعر المغمور أول الأمر، إلى الكاتب المتوّج بأكاليل المجد، في حاجة إلى الخروج من هذه الحياة الخيالية. إنه في حاجة إلى أن يجد صديقًا ( أو صديقة ) ليستطيع أن يفضي بمشاعره. وها هو في ليلة من ليالي شهر مايو البيضاء بينما كان الضياء يضفي على المدينة النائمة طابعًا سحريًا، يلتقي بفتاة بائسة. تتعرض للتحرش من سكير فيندفع ليحميها. إنه يشعر نحوها بشفقة عميقة لأنه يرى أنها حزينة وأن ذكرى من الذكريات كانت تبكيها فيقدم لها صداقته.
-
في رواية الجارة التي كتبها دوستويفسكي الشاب، يقول على لسان كاترين بطلة الرواية: "هب الحرية لإنسان ضعيف، يرفضها هو نفسه ويردها إليك." وهو بهذا يطرح مشكلة الحرية والإرادة، التي سيعود إليها في عدد من رواياته. فكاترين تريد أن تهب الحب الصادق لإنسان جدير بها، لكنها لا تستطيع أن تتحرر من قيود أخطاء الماضي، وهذا ما تتصف به ناستازيا بطلة رواية "الأبله"، وأيضًا جروشنكا بطلة "الأخوة كارامازوف".
-
في تعليقه على رواية "حلم العم" قال دوستويفسكي: "كان همي الوحيد حين كتبت في سيبيريا هذه الرواية الأولى بعد المعتقل أن أستأنف حياتي الأدبية، وكنت خائفًا من الرقابة خوفًا كبيرًا، لذلك جاءت وجلة كحمامة، بريئة براءة تامة من الممكن أن تصنع منها مسرحية هزلية". هكذا كانت رواية حلم العم، كأنما أراد دوستويفسكي أن يبتعد عن تصوير حالة الفقر والبؤس والنفوس الطيبة عن طريق رواية تصوّر حياة الأرستقراطية الروسية بصورة هزلية. فالشخصية الأساسية: "العم" هو أمير أرستقراطي روسي مفتون بالغرب، يعرف أوروبا الغربية أكثر مما يعرف روسيا، ويريد أن يتزوج من كونتيسة فرنسية. تدرك مجموعة من نساء الأرستقراطية الروسية شغف الأمير، وتدور منافسة على من منهن ستزوجه من ابنتها. وتدخل السيدة الأشهر في المدينة المنافسة وتقرر فجأة أن تزوج الأمير من ابنتها زينا الفتاة الجميلة. ترضخ الفتاة لرغبة أمها، وتفتنه لأنها غنّت أغنية فرنسية وهي تعزف على البيانو. إن دوستويفسكي حين صوّر هذه الشخصية إنما قدّم للقارئ صورة كاريكاتورية للأرستقراطية المنحلة المفتونة بحب الغرب. وسنرى نظيرًا لهذه الصورة الكاريكاتورية، بمزيد من السخرية اللاذعة، في رواية "الشياطين".
-
رجل من المجتمع الراقي في العاصمة، يصل ذات يوم إلى مدينة في الأقاليم، فيغازل امرأة موظف مسن محدود الدخل، فلا يلقى في إغوائها عناء.. ويعود الرجل المغوي إلى العاصمة، وتموت المرأة، ولا يبقى سوى المغوي والزوج. ويطّلع الزوج على ما حصل بين الرجل وزوجته حين تقع بين يديه رسائل مرسلة من زوجته المتوفاة. إن ما صوره دوستويفسكي في هذه الرواية، هو المواجهة بين الشخصين، الزوج والعشيق.. مواجهة بين نوعين من الرجال: زوج أبديّ، يعيش مع امرأة، ورجل يغوي النساء ولكنه لا يعيش مع امرأة.. بل هو متوحّد ومنعزل.. أما المرأة فلا يملكها أي منهما. وهذا هو الظرف الإنساني الذي نراه في مرآتهم جميعًا. ها هو المغوي يشعر نحو "الزوج الأبدي" بشفقة يمازجها احتقار ويقول عنه "إن إنسانًا كهذا إنما يولد ويكبر لا لشيء إلا ليتزوج ويصبح تتمة لزوجته." لكن دوستويفسكي يجعل حياة الشخصين تتقاطع، كأن هناك نوعًا من المغناطيسية تقرّب أحدهما من الآخر. حتى إن الزوج يصطحب غريمه ذات يوم إلى خطيبته الجديدة.. وهنا نرى المغوي كأنما يحركه شيطان، فيفتن الفتاة..
-
في العام ١٨٦٢، قام دوستويفسكي بأول رحلة له إلى الخارج. فمر بألمانيا ووصل إلى باريس، حيث لم يمكث فيها إلا عشرة أيام، ثم سافر إلى لندن لمدة أسبوعين، عاد بعدها إلى باريس ثانية، فقضى فيها أسبوعين آخرين، ثم تركها إلى جنيف مارًا بمدينة بال. وفي جنيف التقي بصديقه نيقولا ستراخوف، فزار الصديقان إيطاليا معًا. وقد كتب ستراخوف بعد ذلك يقول: "لا الطبيعة ولا المباني ولا آثار الفن كانت تعنيه، فإنما كان ينصرف انتباهه كله إلى الناس." إن هذا الغائص العظيم إلى أعماق النفوس يوجه انتباهه كله إلى البشر في الشوارع وفي المسارح وفي المقاهي. إنه يحاول أن يفهم سيكولوجية كل شعب أثناء هذه الرحلة الخاطفة التي استغرقت نحو شهرين.
وعندما نشر دوستويفسكي هذه "الذكريات" لم يتحدث فيها عن رحلته إلا قليلًا، وإنما هو يستخدم هذه الرحلة ليعرض آراءه في تاريخ روسيا وفي وضعها، وليتهكم على البلاد التي مر بها، ليتهكم على ألمانيا وإنجلترا، وعلى فرنسا خاصةً، حيث يستهل الكلام عنها بجملة قالها فونفيرين، وهي أن "الفرنسي محروم من العقل، ولو أوتي عقلًا لعدّ ذلك أكبر شقاء يصيبه". ثم لا يذكر إيطاليا أو سويسرا بخير أو شر.
رواية "العذبة" واحدة من أشهر أعمال دوستويفسكي، حيث نجده يغوص في النفس البشرية لرجل يقف أمام جثة زوجته. ويأخذنا إلى ماضي العلاقة بين رجل تصرّف بقساوة مع امرأته، حتى لم يعد ينفع تراجعه الذي لم يعلنه لها، فانتحرت.
-
كتب دوستويفسكي قصة "البطل الصغير" وهو في سجن منفرد بقلعة بتروبافلوسكايا. وبعد ذلك بزمن طويل قال لصديقه: حين وجدتني في السجن قدّرت أن هذه هي النهاية، ولكنني لم ألبث أن هدأت هدوءًا تامًا على حين فجأة. فماذا فعلت؟ كتبت قصة "البطل الصغير". اقرأ هذه القصة! هل تجد فيها شيئًا من غضب أو حنق أو ألم؟ كنت وأنا في سجني أحلم أحلامًا هادئة، طيبة، حلوة، عذبة، وكلما طال بقائي في السجن، ازداد حالي تحسنًا" إن هذا التناقض بين الزنزانة الرطبة مع الانتظار الطويل لصدور الحكم، وبين الأحلام الهادئة والذكريات المضيئة المشرقة لهو ظاهرة نفسية نادرة. وقد علل دوستويفسكي هذه الظاهرة قائلًا: "إن في طبيعة الإنسان حيوية مدهشة! حقًا ما كان لي أن أصدق أن الإنسان يملك مثل هذه الحيوية ولكنني أعرف الآن ذلك بالتجربة". "لقد انتهت طفولتي". ما أروع وصف دوستويفسكي لهذه العواطف التي تضطرم في قلب فتى ملتهب! إن الأسطر الأخيرة من هذه القصة التي كتبها دوستويفسكي قبل نقله إلى المعتقل في سيبريا لهي من أصفى ما خطه قلمه من أحلام رومانسية. إنها وداع للشباب قبيل الآلام التي ستكشف له عن قوة الشر في أعمال النفس الإنسانية. هذه الروح الرومانسية تجمع معظم ما ضمته هذه المجموعة من القصص.
-
في العام ١٨٦٢، قام دوستويفسكي بأول رحلة له إلى الخارج. فمر بألمانيا ووصل إلى باريس، حيث لم يمكث فيها إلا عشرة أيام، ثم سافر إلى لندن لمدة أسبوعين، عاد بعدها إلى باريس ثانية، فقضى فيها أسبوعين آخرين، ثم تركها إلى جنيف مارًا بمدينة بال. وفي جنيف التقي بصديقه نيقولا ستراخوف، فزار الصديقان إيطاليا معًا. وقد كتب ستراخوف بعد ذلك يقول: "لا الطبيعة ولا المباني ولا آثار الفن كانت تعنيه، فإنما كان ينصرف انتباهه كله إلى الناس."
-
في هذه الرواية سنتلمَّس الأغوار العميقة التي سينفذ اليها دوستويفسكي، والأعماق الميتافيزيقية التي ستذهب إليها رواياته في الغوص عميقاً في أبعاد الشخصية الإنسانية، وخاصة في تصوير حياة الفقراء والمهمَّشين والدخول إلى عوالمهم النفسية التي ستدور حولها معظم رواياته. فالبَطلان في هذه الرواية مضطهَدان معذَّبان مذَلّان مهانان، يوقع فيهما الأشرار كل أنواع الظلم، ويتحملان من الفقر ما لا يُطاق. فيتحمّل ماكار الذلّ والجوع ويضحّي بكل ما يمكنه الحصول عليه، وهو قليل جداً، في سبيل الفتاة المسكينة التي لا يكاد يراها، ولا يجرؤ أن يزورها مخافة النمائم. إنه يرتضي لنفسه الحرمان من أجل إسعادها فيرسل اليها هداياه الصغيرة متحمِّلًا البرد والجوع والإذلال. عبر الفقر الذي يعانيه ماكار ديفوشكين يكشف دوستويفسكي عن كل الفقر الذي يحيط به، وحين يهمّ الرجل أن يشكو ويتذمر من العذاب الذي يقاسيه الخيرون في هذا العالم، نراه يعود ليتراجع عن الشكوى والتذمر، مسلّمًا بالواقع، مذعناً لمشيئة القدر، همّه فقط أن يسعد غيره بسذاجة تحمل ببساطتها روحاً إنسانية مدهشة.
-
على الرغم من أن دوستويفسكي أملى الرواية على سكرتيرة، وانتهى منها في أقل من شهر، فإنها جاءت نابضة بالحياة، ولقيت إقبالًا تجاوز معظم ما كان قد نشره دوستويفسكي من قبل. خاصة وأن فيها شيئًا مما عاشه وجرّبه بنفسه. في هذه الرواية نرى تمزقات البطل ألكسي إيفانوفتش الذي يأسره حبّان جامحان، أولهما حبه الشديد لباولين القاسية غريبة الأطوار، والثاني الهوى الجارف لمائدة الروليت. إن حبه لباولين هو مزيج من رغبة بالاستسلام، ورغبة بالهروب، إنه حب وبغض معًا، فألكسي يعترف لباولين بأنه يجد عبوديته لها ملذات كبيرة، فيقول لها أن في المذلة والسقوط متعة عظمى، وفي اللحظة التي تتقبل فيها حبه وتبادله مشاعره يفر.. أما هوى المقامرة، فإن دوستويفسكي يصوره كنوع من الافتتان، السحر، الهذيان، بل نوع من التحدي للقدر. لكن بطل دوستويفسكي، ينتهي إلى اعتبار أن هذا الجموح عاث في نفسه فسادًا فتخلى عنه آخر الأمر.
إن الترجمة التي يقدمها الدكتور سامي الدروبي لهذه الرواية البديعة تمنحنا القدرة على التمتع بهذا العمل الكبير، فكانت ترجمة لا تُضاهى. -
في هذه الحكاية المضحكة، بعنوان التمساح، يحس القارئ بتأثير من جوجول في دوستويفسكي. إنها تذكّر بقصة جوجول عن مغامرة "الأنف" العجيبة. وهذا ما يعترف به دوستويفسكي نفسه. فكما تخيّل جوجول في سبيل الإضحاك أنفًا يتخذ وجه إنسان، كذلك تساءل دوستويفسكي، حين رأي تمساحًا جيء به إلى مدينة بطرسبرج: فما عسى أن يفعله إنسان يبتلعه هذا الحيوان حيًا؟ وهكذا ألّف دوستويفسكي حكاية مضحكة تشتمل على نقد للأفكار التي كانت رائجة حوالي العام 1860. إن بطل القصة، وهو موظف ليبرالي، يحس بارتياح في جوف التمساح. فهو يستطيع أن يضع هناك نظرية اقتصادية جديدة، وأن يفي محاضرات عن التاريخ الطبيعي في صالون زوجته التي يؤخذ إليها التمساح. والموظف الكبير تيموتي سيميوفتش، الذي تلجأ إليه زوجة الرجل مروعة مذعورة، يجيبها بأن التمساح لا يمكن أن يُبقر بطنه، لأن صاحبه أجنبي، ولأن روسيا محتاجة إلى رؤوس أموال أجنبية. لقد أثارت هذه القصة الاهتمام لأن دوستويفسكي اتُهم بأنه يهاجم الفيلسوف تشرنيشفسكي وجريدة "الصوت" اليسارية، وهو ما نفاه دوستويفسكي.
لقد أراد دوستويفسكي من قصة زوجة آخر ورجل تحت السرير أن يقدم قصة هزلية، فهذه القصة أشبه بمسرحية من نوع "المسخرة"، حيث نرى زوجًا غيورًا ينتظر خروج زوجته في موعد غرامي ليقبض عليها متلبسة بالجرم، ثم نراه يدخل في حديث مع شاب هو عشيق الزوجة وكان ينتظرها هو أيضًا. ثم تخرج الزوجة مع شخص ثالث.. بعدها نرى الزوج الغيور يدخل بيتًا لا يعرفه، وعند وصول صاحب البيت يختبئ تحت السرير حيث يجد شابًا قد سبقه إلى الاختباء هناك.
-
هنا يسبق دوستويفسكي عالم النفس آدلر في تصويره عقدة النقص وما تفعله بصاحبها. ويسبق فرويد حين يصف لنا البنية نيتوتشكا التي تحب أباها (زوج أمها) وتكره أمها.. "شعرت نحوه بحب لا حدود له، حب ليس فيه شيء من طفولة" (عقدة إلكترا) وحين تُنقل نيتوتشكا إلى بيت أمير، تتعرف هناك بابنة الأمير، وتنشأ بين الفتاتين عاطفة هي حب الفرد فردًا من جنسه، الذي يحدثنا عنه فرويد: قبلات وعناق ونجوى ومسارات.. وتنشأ بينهما في الوقت نفسه صلات تصلح تجسيدًا لنظرية آدلر في "عقدة النقص" أو "مُركب الدونية"
ويبدأ الجزء الثالث بقصة السيدة التي تحسن إلى اليتيمة فتضمها إليها وتحبها، فتبادلها الصبية الحب. ولكن نيتوتشكا تشعر بوجود شيء ما وراء ذلك التسليم الذي يبدو على سيدة البيت. فإنها تلاحظ أن السيدة تخفي القلق والاضطراب والخوف كلما بدت أسعد حالًا وأهدأ بالًا. ثم تكتشف السر: تعثر في كتاب لوالتر سكوت على رسالة قديمة أرسلها إلى إلكسندرين ميخائيلوفنا شاب يعترف بحبه، ويتركها إلى الأبد لأن الناس من حولهم أخذوا يروّجون الأقاويل. وتفهم نيتوتشكا السر في حزن "المتهمة البريئة" التي يسومها زوجها العذاب بسبب هذه الرسالة.
-
في هذه الحكاية المضحكة، بعنوان التمساح، يحس القارئ بتأثير من جوجول في دوستويفسكي. إنها تذكّر بقصة جوجول عن مغامرة "الأنف" العجيبة. وهذا ما يعترف به دوستويفسكي نفسه. فكما تخيّل جوجول في سبيل الإضحاك أنفًا يتخذ وجه إنسان، كذلك تساءل دوستويفسكي، حين رأي تمساحًا جيء به إلى مدينة بطرسبرج: فما عسى أن يفعله إنسان يبتلعه هذا الحيوان حيًا؟ وهكذا ألّف دوستويفسكي حكاية مضحكة تشتمل على نقد للأفكار التي كانت رائجة حوالي العام 1860